الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: مجموع فتاوى ابن تيمية **
/فأجاب: هذه المسألة فيها نزاع مشهور؛ إذا باعه حنطة أو شعيرًا أو نحوهما من الربويات إلى أجل، واعتاض عن ثمن ذلك حنطة أو شعيرًا أو نحوهما مما لا يباع بالأول نسأ. فعند مالك وأحمد وغيرهما أن ذلك لا يجوز، وعند أبي حنيفة والشافعي أنه يجوز، وهو قول بعض أصحاب أحمد.
فأجاب: لا يجوز بيع الفضة بالفضة إلا مثلًا بمثل. وإذا كان الغش الذي في الفضة لا يقصد بالفضة جاز. وأما إن كانت الفضة أكثر من الفضة لم يجز، لا سيما إن كانت الفضة التي في المغشوش أكثر من الخالصة، فهذا لا يجوز باتفاق المسلمين، والجهل بالتساوي كالعلم بالتفاضل. / فأجاب: إذا كانت الفضة الخالصة في أحدهما، بقدر الفضة الخالصة في الأخري، وهي المقصودة، والنحاس يذهب. وقد علم قدر ذلك بالتحري، والاجتهاد. فهذا يجوز في أحد قولي العلماء. وكذلك إذا كانت الفضة المفردة أكثر من الفضة المغشوشة بشيء يسير بقدر النحاس، فهذا يجوز في أظهر قولي العلماء. وأما إذا كانت الفضة المغشوشة أكثر من المفردة، فإنه لا يجوز. والله أعلم.
/فأجاب: هذه المقابضة تجوز في أظهر قولي العلماء، والجواز فيه له مأخذان، بل ثلاثة: أحدها: أن هذه الفضة معها نحاس، وتلك فضة خالصة، والفضة المقرونة بالنحاس أقل. فإذا بيع مائة درهم من هذه بسبعين مثلًا من الدراهم الخالصة، فالفضة التي في المائة أقل من سبعين. فإذا جعل زيادة الفضة بإزاء النحاس جاز، على أحد قولي العلماء الذين يجوزون مسألة [مُد عَجْوَة] كما هو مذهب أبي حنيفة، وأحمد في إحدى الروايتين. وهو أيضًا مذهب مالك، وأحمد في المشهور عنه، إذا كان الربوي تبعًا لغيره، كما إذا باع شاة ذات لبن بلبن، ودارًا مموهة بالذهب بذهب، والسيف المحلي بفضة بفضة أو ذهب ونحو ذلك. والذين منعوا من مسألة [مُدّ عَجْوةَ] ـ وهو بيع الربوي بجنسه، إذا كان معهما أو مع أحدهما من غير جنسه ـ قد علله طائفة منهم ـ من أصحاب الشافعي وأحمد ـ بأن الصفقة إذا اشتملت على عوضين مختلفين انقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهذه علة ضعيفة؛ فإن الانقسام إذا باع شقصًا مشفوعًا، وما ليس بمشفوع ـ كالعبد والسيف والثوب ـ إذا كان لا يحل عاد الشريك إلى الأخذ بالشفعة. فأما انقسام الثمن بالقيمة لغير حاجة فلا دليل عليه. /والصحيح عند أكثرهم كون ذلك ذريعة إلى الربا، بأن يبيع ألف درهم في كيس بألفي درهم، ويجعل الألف الزائدة في مقابلة الكيس، كما يجوز ذلك من يجوزه من أصحاب أبي حنيفة. والصواب في مثل هذا أنه لا يجوز؛ لأن المقصود بيع دراهم بدراهم متفاضلة، فمتي كان المقصود ذلك حرم التوسل اليه بكل طريق، فإنما الأعمال بالنيات. وكذلك إذا لم يعلم مقدار الربوي بل يخرص خرصًا؛ مثل القلادة التي بيعت يوم حنين وفيها خرز معلق بذهب، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (لا تباع حتى تفصل)، فإن تلك القلادة لما فصلت كان ذهب الخرز أكثر من ذلك الذهب المفرد، فنهى النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع هذا بهذا حتى تفصل؛ لأن الذهب المفرد يجوز أن يكون أنقص من الذهب المقرون، فيكون قد باع ذهبًا بذهب مثله، وزيادة خرز، وهذا لا يجوز. وإذا علم المأخذ، فإذا كان المقصود بيع دراهم بدراهم مثلها، وكان المفرد أكثر من المخلوط، كما في الدراهم الخالصة بالمغشوشة، بحيث تكون الزيادة في مقابلة الخلط، لم يكن في هذا من مفسدة الربا شيء؛ إذ ليس المقصود بيع دراهم بدراهم أكثر منها ولا هو بما يحتمل أن / يكون فيه ذلك، فيجوز التفاوت. المأخذ الثاني: مأخذ من يقول: يجوز بيع الربوي بالربوي على سبيل التحري والخرص عند الحاجة إلى ذلك، إذا تعذر الكيل أو الوزن، كما يقول ذلك مالك والشافعي وأحمد في بيع العرايا بخرصها، كما مضت به السنة في جواز بيع الرطب بالتمر خرصًا؛ لأجل الحاجة. ويجوز ذلك في كل الثمار في أحد الأقوال في مذهب أحمد، وغيره. وفي الثاني لا يجوز، وفي الثالث يجوز في العنب والرطب خاصة، كما يقوله من يقوله من أصحاب الشافعي. وكما يقول نظير ذلك مالك وأصحابه في بيع الموزون على سبيل التحري عند الحاجة، كما يجوز بيع الخبز بالخبز على وجه التحري، وجوزوا بيع اللحم باللحم على وجه التحري في السفر. قالوا: لأن الحاجة تدعو إلى ذلك، ولا ميزان عندهم، فيجوز كما جازت العرايا. وفرقوا بين ذلك، وبين الكيل؛ فإن الكيل ممكن، ولو بالكف. وإذا كانت السنة قد مضت بإقامة التحري والاجتهاد مقام العلم بالكيل أو الوزن عند الحاجة، فمعلوم أن الناس يحتاجون إلى بيع هذه الدراهم المغشوشة بهذه الخالصة، وقد عرفوا مقدار ما فيها من الفضة/ بأخبار أهل الضرب، وأخبار الصيارفة وغيرهم ممن سبك هذه الدراهم، وعرف قدر ما فيها من الفضة، فلم يبق في ذلك جهل مؤثر، بل العلم بذلك أظهر من العلم بالحرص، أو نحو ذلك، وهم إنما مقصودهم دراهم بدراهم بقدر نصيبهم، ليس مقصودهم أخذ فضة زائدة. ولو وجدوا من يضرب لهم هذه الدراهم فضة خالصة من غير اختيارهم، بحيث تبقي في بلادهم لفعلوا ذلك، وأعطوه أجرته. فهم ينتفعون بما يأخذونه من الدراهم الخالصة، ولا يتضررون بذلك. وكذلك أرباب الخالصة إذا أخذوا هذه الدراهم، فهم ينتفعون بذلك لا يتضررون. وهذا [مأخذ ثالث] يبين الجواز، وهو: أن الربا إنما حرم لما فيه من أخذ الفضل، وذلك ظلم يضر المعطي، فحرم لما فيه من الضرر. وإذا كان كل من المتقابضين مقابضة أنفع له من كسر دراهمه، وهو إلى ما يأخذه محتاج، كان ذلك مصلحة لهما، هما يحتاجان اليها، والمنع من ذلك مضرة عليهما. والشارع لا ينهى عن المصالح الراجحة، ويوجب المضرة المرجوحة، كما قد عرف ذلك من أصول الشرع. وهذا كما أن من أخذ [السفتجة] من المقرض، وهو أن يقرضه دراهم يستوفيها منه في بلد آخر، مثل أن يكون المقرض غرضه حمل دراهم إلى بلد آخر، والمقترض له دراهم في ذلك البلد، وهو محتاج إلى دراهم في بلد المقرض، فيقترض منه في بلد دراهم المقرض، ويكتب / له سفتجة ـ أي ورقة ـ إلى بلد دراهم المقترض، فهذا يجوز في أصح قولي العلماء. وقيل: ينهى عنه؛ لأنه قرض جر منفعة، والقرض إذا جر منفعة كان ربا، والصحيح الجواز؛ لأن المقترض رأي النفع بأمن خطر الطريق، إلى نقل دراهمه إلى بلد دراهم المقترض، فكلاهما منتفع بهذا الاقتراض. والشارع لا ينهى عما ينفع الناس، ويصلحهم، ويحتاجون اليه؛ وإنما ينهى عما يضرهم، ويفسدهم، وقد أغناهم الله عنه. والله أعلم.
فأجاب: إذا كان يصرفها للناس بالسعر العام جاز ذلك، وإن اشتراها رخيصة. وأما من باع سلعة بدراهم، فإنه لا يجب عليه أن يقتضي عن شيء منها فلوسًا، إلا باختياره. وكذلك من اشتراها بدراهم فعليه أن يوفىها دراهم، فإن تراضيا على التعويض عن الثمن، أو بعضه بفلوس بالسعر الواقع جاز. والله أعلم. / فأجاب: إذا دفع الدرهم فقال: أعطني بنصفه فضة، وبنصفه فلوسًا. وكذلك لو قال: أعطني بوزن هذه الدراهم الثقيلة أنصافا، أو دراهم خفافًا؛ فإنه يجوز، سواء كانت مغشوشة، أو خالصة. ومن الفقهاء من يكره ذلك، ويجعله من باب [مُدّ عَجْوةَ] لكونه باع فضة ونحاسا بفضة ونحاس. وأصل مسألة [مُدّ عَجْوَة] : أن يبيع مالا ربويا بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما، فإن للعلماء في ذلك ثلاثة أقوال: أحدها: المنع مطلقًا؛ كما هو مذهب الشافعي، ورواية عن أحمد. والثاني: الجواز مطلقا؛ كقول أبي حنيفة، ويذكر رواية عن أحمد. /والثالث: الفرق بين أن يكون المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا، أو لا يكون، وهذا مذهب مالك وأحمد في المشهور عنه. فإذا باع تمرًا في نواه بنوي، أو تمرًا منزوع النوي. أو شاة فيها لبن، بشاة ليس فيها لبن، أو بلبن، ونحو ذلك، فإنه يجوز عندهما، بخلاف ما إذا باع ألف درهم بخمسمائة درهم في منديل؛ فإن هذا لا يجوز. فمن كان قصده بيع الربوي بجنسه متفاضلا لم يجز، وإن كام تبعًا غير مقصود جاز. ومالك ـ رحمه الله ـ يقدر ذلك بالثلث. وهكذا إذا باع حنطة فيها شعير يسير بحنطة فيها شعير يسير، فإن ذلك يجوز عند الجمهور. وكذلك إذا باع الدراهم التي فيها غش بجنسها؛ فإن الغش غير مقصود، والمقصود بيع الفضة بالفضة، وهما متماثلان. وكذلك صرف الفلوس بالدراهم المغشوشة، يقول من يكرهه: إنه بيع فضة ونحاس، بنحاس. والصحيح الذي عليه الجمهور أن هذا كله جائز.
فصل وأما بيع الفضة بالفلوس النافقة: هل يشترط فيها الحلول والتقابض، كصرف الدراهم بالدنانير؟ فيه قولان، هما روايتان عن أحمد: إحداهما: لابد من الحلول والتقابض؛ فإن هذا من جنس الصرف؛ فإن الفلوس النافقة تشبه الأثمان، فيكون بيعها بجنس الأثمان صرفًا. والثانية: لا يشترط الحلول والتقابض؛ فإن ذلك معتبر في جنس الذهب والفضة، سواء كان ثمنًا أو كان صرفًا، أو كان مكسورًا، بخلاف الفلوس، ولأن الفلوس هي في الأصل من [باب العروض] والثمنية عارضة لها. وأيضًا، هذا مبني على الأصل الآخر، وهو أن بيع النحاس متفاضلا هل يجوز؟ على قولين معروفين فيه، وفي سائر الموزونات؛ كالحديد بالحديد، والرصاص بالرصاص، والقطن بالقطن، والكتان بالكتان، / والحرير بالحرير: أحدهما: لا يجوز بيع الجنس بجنسه متفاضلا، وهو مذهب أبي حنيفة وأصحابه، وأحمد في أشهر الروايتين عنه. والثاني: أن ذلك جائز، وهو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد في الرواية الأخري، اختارها طائفة من أصحابه. ومن قال بالتحريم اختلفوا في المعمول من ذلك؛ كثياب القطن، والكتان، والأسطال، وقدور النحاس، وغير ذلك. هل يجري فيه الربا؟ على ثلاثة أقوال: أصحها: الفرق بين ما يقصد وزنه بعد الصنعة؛ كثياب الحرير، والأسطال، ونحوهما ـ وبين ما لا يقصد وزنه؛ كثياب القطن، والكتان، والإبر وغيرها. وعلى هذا، فالفلوس يجري فيها الربا عند من يقول: إن معمول النحاس يجري فيه، ومن اعتبر قصد الوزن لم يجر الربا فيها عنده؛ لأنه لا يقصد وزنها في العادة، وإنما تنفق عددًا. لكن من قال: هي أثمان. فهل يجري فيها الربا من هذه الجهة؟ على وجهين لهم. وكذلك فيها وجهان في وجوب الزكاة فيها، وفي إخراجها عن الزكاة، وغير ذلك. والوجهان في مذهب أحمد، وغيره. / فأجاب: الحمد لله، هذه فيها نزاع بين العلماء، لكن الأكثرون على جواز ذلك؛ كأبي حنيفة، ومالك، وأحمد في ظاهر مذهبه. فإن المسألة التي نقلتها الفقهاء مسألة [مد عجوة] على ثلاثة أقسام ـ يجمعها أنه بيع ربوي بجنسه، ومعهما أو مع أحدهما من غير جنسهما ـ: القسم الأول: أن يكون المقصود بيع ربوي بجنسه متفاضلا، ويضم إلى الأقل غير الجنس حيلة، مثل أن يبيع ألفي دينار بألف دينار في منديل، أو قفيز حنطة بقفيز وغرارة، ونحو ذلك. فإن الصواب في مثل هذا القول بالتحريم، كما هو مذهب مالك، والشافعي، وأحمد. وإلا فلا يعجز أحد في ربا الفضل أن يضم إلى القليل شيئًا من هذا. القسم الثاني: أن يكون المقصود بيع غير ربوي مع ربوي، وإنما دخل الربوي ضمنا وتبعا؛ كبيع شاة ذات / صوف ولبن بشاة ذات صوف ولبن، أو سيف فيه فضة يسيرة بسيف أو غيره، أو دار مموهة بذهب بدار، ونحو ذلك. فهنا الصحيح في مذهب مالك وأحمد جواز ذلك. وكذلك لو كان المقصود بيع الربوي بغير الربوي، مثل بيع الدار والسيف ونحوهما بذهب، أو بيعه بجنسه، وهما متساويان. ومسألة الدراهم المغشوشة في زماننا من هذا الباب؛ فإن الفضة التي في أحد الدرهمين كالفضة التي في الدرهم الآخر. وأما النحاس فهو تابع غير مقصود؛ ولهذا كان الصحيح جواز ذلك، بخلاف القسم الثالث، وهو ما إذا كان كلاهما مقصودًا؛ مثل بيع مد عجوة ودرهم بمدعجوة ودرهم، أو مدين، أو درهمين، أو بيع دينار بنصف دينار وعشرة دراهم، أو بيع عشرة دراهم ورطل نحاس بعشرة دراهم ورطل نحاس، فمثل هذه فيها نزاع مشهور. فأبو حنيفة يجوز ذلك، والشافعي يحرمه. وعن أحمد روايتان. ولمالك تفصيل بين الثلث وغيره. / فأجاب: الحمد لله، هذا على ثلاثة أنواع: أحدها: أن يكون المقصود بيع فضة بفضة متفاضلا، أو بيع ذهب بذهب متفاضلا، ويضم إلى الأنقص من غير جنسه حيلة، فهذا لا يجوز أصلا. والثاني: أن يكون المقصود بيع أحدهما، وبيع عرض بأحدهما، وفي العرض ما ليس مقصودًا: مثل بيع السلاح بأحدهما وفيه حيلة يسيرة، أو بيع عقار بأحدهما وفي سقفه وحيطانه كذلك؛ مثل بيع غنم ذات صوف بصوف، وذات لبن بلبن، فهذا يجوز عند أكثر العلماء، وهو الصواب. وبيع الفضة المخيشة بذهب يذهب عند السبك بفضة مثله، هو من هذا الباب؛ فإذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب، أو بيعت / بذهب مقبوض جاز ذلك، وإذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لأجل الصناعة لم يجز. والثالث: أن يكون كلا الأمرين مقصودا؛ مثل أن يكون على السلاح ذهب أو فضة كثير؛ فهذا إذا كان معلوم المقدار وبيع بأكثر من ذلك؛ ففيه نزاع مشهور. والأظهر أنه جائز. وإذا بيعت الفضة المصنوعة المخيشة بذهب، أو بيعت بذهب مغشوش، جاز ذلك، وإذا بيعت الفضة المصنوعة بفضة أكثر منها لم يجز. والله أعلم.
فصل وأما بيع الدراهم النقرة التي تكون فضتها نحو الثلثين، بالدراهم السود التي تكون فضتها نحو الربع، أو أقل، أو أكثر، فهذه مما تتعلق بمسألة [مُدّ عَجْوةَ] . وجماعها: أن يبيع ربويا معه غيره بجنس ذلك الربوي، والناس فيها بين طرفي التحريم، والتحليل، وبين متوسط. / فإذا كان المقصود بيع الربوي بجنسه متفاضلا، وقد أدخل الغير حيلة، كمن يبيع ألفي درهم بألف درهم في منديل، أو قفيزي حنطة بقفيز في زنبيل، فهذا لا ريب في تحريمه. كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد. وإن كان المقصود هو البيع الجائز، وما فيه من مقابلة ربوي بربوي هو داخل على وجه التبع؛ كبيع الغنم بالغنم، وفي كل منهما لبن وصوف، أو بيع غنم ذات لبن بلبن، وبيع دار مموهة بذهب، وبيع الحلية الفضية بذهب، وعليهما ذهب يسير موهت به، ونحو ذلك. فهذا الصواب فيه أنه جائز، كما هو المشهور من مذهب أحمد، وغيره، كما جاز دخول الثمرة قبل بدو صلاحها، في البيع تبعا، وقد جاء مع ذلك الحديث الذي رواه مسلم مرفوعا، كما رواه سالم عن أبيه، ورواه نافع عن ابن عمر مرفوعا: (من باع عبدا له، وله مال، فماله للبائع، إلا أن يشترط المبتاع). وأما إن كان كلا الصنفين مقصودا، ففيهما النزاع المشهور. ومنهم من منعه؛ إما لكونه ذريعة إلى الربا، وإما لكون الصفقة المشتملة على عوضين مختلفين ينقسم الثمن عليهما بالقيمة، وهو مذهب مالك والشافعي، وأحمد في إحدى روايتيه. /ومنهم من جوزه كمذهب أبي حنيفة وغيره. والرواية الأخري عن أحمد: إذا كان المفرد أكثر من الذي معه غيره. إذا عرف ذلك، فبيع النقرة المغشوشة بالنقرة المغشوشة جائز على الصحيح، كبيع الشاة اللبون باللبون، إذا تماثلا في الصفة، أو النحاس. وأما بيع النقرة بالسوداء، إذا لم يقصد به فضة بفضة متفاضلا، فإن النحاس الذي في السوداء مقصود، وهي قرينة بين النقرة والفلوس، فهذه تخرج على النزاع المشهور في مسألة [مدعجوة] إذ قد باع فضة ونحاسا بفضة ونحاس مقصودين، والأشبه الجواز في ذلك، وفي سائر هذا الباب، إذا لم يشتمل على الربا المحرم. والأصل حمل العقود على الصحة، والحاجة داعية إلى ذلك، وحديث الخرز المعلقة بالذهب، لم يعلم كون الذهب المفرد أكثر من الذي مع الخرز، والتقويم في العوضين المختلفين كان للحاجة. هذا إن كان النحاس ينتفع به، إذا تخلص من الفضة؛ فإن كان لا ينتفع به، فذلك كبيع الفضة بالفضة، يعتبر فيه التماثل، ويلغي فيه ما لا خبرة للناس بمقدار الفضة. والله أعلم. / فأجاب: ليس لهم أن يوفوا فلوسًا إلا برضا البائع، وإذا أوفوا فلوسًا فليس لهم أن يوفوها إلا بالسعرالواقع، كما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عبد الله بن عمر لما قال له: إنا نبيع بالذهب، ونقتضي الورق، ونبيع بالورق ونقتضي الذهب، فقال: (لا بأس به، بسعر يومه، إذا افترقتما، وليس بينكما شيء). وحينئذ، فتخيير الثمن على التقدير سواء؛ وذلك لأن هذا ربح فيما لم يضمن. وعلى هذا التقدير فجميع الديون والاعتياض عنها سواء؛ لأن التقديرين يجريان مجري واحدًا. فاستيفاء أحدهما عن الآخر كاستيفاء أحدهما عن نفسه، فلا يكون ذلك من باب المعاوضة، فلا تجوز فيه الزيادة بالشرط، كما لا يجوز في القرض ونحوه مما يوجب المماثلة. فإذا اتفقا على أن يوفى أحدهما أكثر من قيمته، كان كالاتفاق / على أن يوفى عنه أكثر من جنسه؛ بخلاف الزيادة من غير شرط. وعلى هذا فالفلوس النافقة قد يكون فيها شوب أقوي من الأثمان، فتوفيتها عن أحد النقدين، كتوفية أحدهما عن صاحبه، فيه العلتان؛ لحديث ابن عمر. يحسبها بنقدين في الحكم، ويقتصر به عن الأثمان. والله أعلم.
فأجاب: الحمد لله، هذه المسألة فيها نزاع مشهور بين العلماء وهو صرف الفلوس النافقة بالدراهم، هل يشترط فيها الحلول؟ أم يجوز فيها النسأ؟ على قولين مشهورين، هما قولان في مذهب أبي حنيفة، وأحمد بن حنبل: أحدهما: وهو منصوص أحمد، وقول مالك، وإحدي الروايتين عن أبي حنيفة: أنه لا يجوز. وقال مالك: وليس بالحرام البين. والثاني: وهو قول الشافعي وأبي حنيفة في الرواية الأخرى، / وابن عقيل من أصحاب أحمد:أنه يجوز.ومنهم من يجعل نهى أحمد للكراهة؛فإنه قال:هو يشبه الصرف. والأظهر المنع من ذلك؛ فإن الفلوس النافقة يغلب عليها حكم الأثمان، وتجعل معيار أموال الناس. ولهذا ينبغي للسلطان أن يضرب لهم فلوسا تكون بقيمة العدل في معاملاتهم، من غير ظلم لهم. ولا يتجر ذو السلطان في الفلوس أصلا، بأن يشتري نحاسا فيضربه فيتجر فيه، ولا بأن يحرم عليهم الفلوس التي بأيديهم، ويضرب لهم غيرها، بل يضرب ما يضرب بقيمته من غير ربح فيه؛ للمصلحة العامة، ويعطي أجرة الصناع من بيت المال، فإن التجارة فيها باب عظيم من أبواب ظلم الناس، وأكل أموالهم بالباطل، فإنه إذا حرم المعاملة بها حتى صارت عرضا، وضرب لهم فلوسا أخري، أفسد ما عندهم من الأموال بنقص أسعارها، فيظلمهم فيها، وظلمهم فيها بصرفها بأغلى سعرها. وأيضا، فإذا اختلفت مقادير الفلوس، صارت ذريعة إلى أن الظلمة يأخذون صغارا فيصرفونها، وينقلونها إلى بلد آخر، ويخرجون صغارها، فتفسد أموال الناس، وفي السنن عن النبي صلى الله عليه وسلم: أنه نهى عن كسر سكة المسلمين الجائزة بينهم، إلا من بأس. فإذا كانت مستوية المقدار بسعر النحاس، ولم يشتر ولي الأمر النحاس، والفلوس الكاسدة ليضربها فلوسًا، ويتجر بذلك، حصل بها المقصود / من الثمنية. وكذلك الدراهم، فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيـع الدرهم بالدرهمين، والدينار بالدينارين؛ ونهى عن صرف الدراهم بالدنانير، إلا يدًا بيد. وتحريم النسأ متفق عليه بين الأمة. وتحريم التفاضل يدا بيد قد ثبت فيه أحاديث صحيحة، وقال به جمهور الأمة، ولكن لله ولرسوله في الشريعة من الحكمة البالغة، والنعمة التامة، والرحمة العامة، ما قد يخفي على كثير من العلماء. وقد اختلفوا في كثير من [مسائل الربا] قديما وحديثا، واختلفوا في تحريم التفاضل في الأصناف الستة: الذهب، والفضة، والحنطة، والشعير، والتمر، والملح: هل هو التماثل؟ وهو الكيل والوزن، أو هو الثمنية والطعم، أو هو الثمنية والتماثل مع الطعم والقوت وما يصلحه؟ أو النهي غير معلل، والحكم مقصور على مورد النص؟ على أقوال مشهورة. والأول: مذهب أبي حنيفة، وأحمد في أشهر الروايات عنه. والثاني: قول الشافعي، وأحمد في رواية. والثالث: قول أحمد في رواية ثالثة اختارها أبو محمد، وقول مالك قريب من هذا، وهذا القول أرجح من غيره. والرابع: قول داود وأصحابه، ويروي عن قتادة. ورجح ابن عقيل هذا القول في مفرداته، وضعف / الأقوال المتقدمة. وفيها قول شاذ: أن العلة المالية، وهو مخالف للنصوص، ولإجماع السلف. والاتحاد في الجنس شرط على كل قول من ربا الفضل. والمقصود هنا الكلام في علة تحريم الربا في الدنانير والدراهم. والأظهر أن العلة في ذلك هو الثمنية؛ لا الوزن، كما قاله جمهور العلماء، ولا يحرم التفاضل في سائر الموزونات؛ كالرصاص، والحديد، والحرير، والقطن، والكتان. ومما يدل على ذلك اتفاق العلماء على جواز إسلام النقدين في الموزونات، وهذا بيع موزون بموزون إلى أجل، فلو كانت العلة الوزن لم يجز هذا. والمنازع يقول: جواز هذا استحسان، وهو نقيض للعلة. ويقول: إنه جوز هذا للحاجة؛ مع أن القياس تحريمه، فيلزمه أن يجعل العلة الربا بما ذكره. وذلك خلاف قوله. وتخصيص العلة الذي قد سمي استحسانا إن لم يبين دليل شرعي يوجب تعليق الحكم للعلة المذكورة، واختصاص صورة التخصيص، بمعني يمنع ثبوت الحكم من جهة الشرع، والأحاديث،وإلا كانت العلة فاسدة. والتعليل بالثمنية تعليل بوصف مناسب، فإن المقصود من الأثمان أن تكون معيارا للأموال، يتوسل بها إلى معرفة مقادير الأموال، ولا / يقصد الانتفاع بعينها. فمتي بيع بعضها ببعض إلى أجل، قصد بها التجارة التي تناقض مقصود الثمنية، واشتراط الحلول والتقابض فيها هو تكميل لمقصودها من التوسل بها إلى تحصيل المطالب؛ فإن ذلك إنما يحصل بقبضها، لا بثبوتها في الذمة؛ مع أنها ثمن من طرفين، فنهي الشارع أن يباع ثمن بثمن إلى أجل. فإذا صارت الفلوس أثمانًا صار فيها المعني، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل. كما أن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الكالئ بالكالئ. وهو المؤخر بالمؤخر، ولم ينه عن بيع دين ثابت في الذمة يسقط إذا بيع بدين ثابت في الذمة يسقط؛فإن هذا الثاني يقتضي تفريغ كل واحدة من الذمتين؛ ولهذا كان هذا جائزا في أظهر قولي العلماء؛ كمذهب مالك وأبي حنيفة، وغيرهما، بخلاف ما إذا باع دينا يجب في الذمة ويشغلها بدين يجب في الذمة؛ كالمسلم إذا أسلم في سلعة ولم يقبضه رأس المال، فإنه يثبت في ذمة المستسلف دين السلم، وفي ذمة المسلف رأس المال، ولم ينتفع واحد منهما بشيء. ففيه شغل ذمة كل واحد منهما بالعقود التي هي وسائل إلى القبض، وهو المقصود بالعقد. كما أن السلع هي المقصودة بالأثمان، فلا يباع ثمن بثمن إلى أجل، كما لا يباع كالئ بكالئ؛ لما في ذلك من الفساد والظلم المنافي لمقصود الثمنية، ومقصود العقود، بخلاف كون المال موزونا ومكيلا؛ فإن هذا صفة لما / به يقدر، ويعلم قدره؛ ولأن في ذلك معني يناسب تحريم التفاضل فيه. فإذا قيل: المكيلات والموزونات متماثلة، وعلة التحريم نفي التماثل. قيل: العاقل لا يبيع شيئا بمثله إلى أجل، ولكن قد يقرض الشيء ليأخذ مثله بعد حين. والقرض هو تبرع من جنس العارية، كما سماه النبي صلى الله عليه وسلم: (منيحة ورق، أو منيحة ذهب) . فالمال إذا دفع إلى من يستوفي منفعته مدة، ثم يعيده إلى صاحبه، كان هذا تبرعا من صاحبه بنفعه تلك المدة، وإن كان لكل نوع اسم خاص. فيقال في النخلة: عارية، ويقال فيما يشرب لبنه: منيحة. ثم قد يعيد اليه عين المال إن كان مقصودًا، وإلا أعاد مثله، والدراهم لا تقصد عينها، فإعادة المقترض نظيرها، كما يعيد المضارب نظيرها. وهو رأس المال؛ ولهذا سمي قرضا؛ ولهذا لم يستحق المقرض إلا نظير ماله، وليس له أن يشترط الزيادة عليه في جميع الأموال، باتفاق العلماء. والمقرض يستحق مثل قرضه في صفته كما يستحق مثله في الغصب والإتلاف،ومثل هذا لا يبيعه عاقل،وإنما يباع الشيء بمثله،فيما إذا اختلفت الصفة. والشارع طلب إلغاء الصفة في الأثمان، فأراد أن تباع الدراهم بمثل وزنها، ولا ينظر إلى اختلاف الصفات مع خفة وزن كل درهم، كما يفعله من يطلب دراهم خفافا، إما ليعطيها للظلمة، وإما ليقضي بها،/ وإما لغير ذلك، فيبدل أقل منها عددا، وهو مثلها وزنا، فيريد المربي ألا يعطيه ذلك إلا بزيادة في الوزن، فهذا إخراج الأثمان عن مقصودها، وهذا مما حرمه النبي صلى الله عليه وسلم بلا ريب، بخلاف مواضع تنازع العلماء فيها، ليس هذا موضع تفصيلها. والله أعلم.
فأجاب: أما بخس المكيال والميزان، فهو من الأعمال التي أهلك الله بها قوم شعيب، وقص علينا قصتهم في غير موضع من القرآن؛ لنعتبر بذلك. والإصرار على ذلك من أعظم الكبائر، وصاحبه مستوجب تغليظ العقوبة، وينبغي أن يؤخذ منه ما بخسه من أموال المسلمين على طول الزمان، ويصرف في مصالح المسلمين، إذا لم يمكن إعادته إلى أصحابه. والكيال والوزان الذي يبخس الغير، هو ضامن محروم، مأثوم. وهو من أخسر الناس صفقة؛ إذ باع آخرته بدنيا غيره. ولا يحل أن يجعل بين الناس كيالا أو وزانا يبخس أو يحابي، كما لا يحل أن يكون بينهم مقوم يحابي، بحيث يكيل أو يزن أو يقوم لمن يرجوه أو يخاف من شره، أو يكون له جاه ونحوه، بخلاف ما يكيل أو يزن / أو يقوم لغيرهم، أو يظلم من يبغضه، ويزيد من يحبه. قال الله تعالى: / فأجاب: الحمـد لله، بيعـها لا يسقط الدعوي، ولا اليمين الواجبة بالدعوي، وصاحب الحـق له أن يــدعي على المشـتري المســتولي على ما أحـدث؛ ليزال الإحـداث. ولـه أن يـدعي على البائـع المحـدث له، الممكن له المشتري من الاستيلاء، فعلى أيهما ادعى صحت دعـواه. / فأجاب: أما البيع فيقع على الصورة الواقعة، لكن إذا لم يعلم المشتري أن على سطحه حقًا لغيره، فله الفسخ، أو الأرش.
فأجاب: بيع الزرع بشرط التبقية لا يجوز باتفاق العلماء. وإن اشتراه بشرط القطع جاز بالاتفاق. وإن باعه مطلقًا لم يجز عند جماهير العلماء؛ فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن بيع الحب حتى يشتد، والعنب حتى يسود. / فأجاب ـ رضي الله عنه: الحمد لله رب العالمين، هذه المسألة لها صورتان: إحداهما: أن يضمن البستان ضمانا بحيث يكون الضامن هو الذي يزرع أرضه، ويسقي شجره، كالذي يستأجر الأرض. والأخري إنما يكون اشترى مجرد الثمرة؛ بحيث يكون مؤنة السقي والإصلاح على البائع دون المشتري، والمشتري ليس له إلا الثمرة، ولا مؤنة عليه. / فأما الصورة الأولي، فللعلماء فيها ثلاثة أقوال: أحدها: أنها داخلة في النهي عن بيع الثمرة حتى يبدو صلاحها. وعلى هذا فمنهم من يحتال على ذلك بإجارة الأرض والمساقاة على الشجر، كما يذهب إلى ذلك طائفة من أصحاب أبي حنيفة والشافعي، وبعض أصحاب أحمد: منهم القاضي أبو يعلى في [كتاب إبطال الحيل] والمنصوص عن أحمد بطلان هذه الحيل، وهو مذهب مالك وغيره، وكثير من الصور تكون باطلة بالإجماع. والقول الثاني: يفرق بين أن تكون الأرض كثيرة أو قليلة، فإن كانت الأرض البيضاء أكثر من الثلثين والشجر أقل من الثلث، جاز إجارة الأرض، ودخل فيها بيع الثمر ضمنا وتبعا، وهذا قول مالك. وفي وقف الثلث قولان. الثالث: جواز ذلك مطلقا، سواء كانت الأرض أقل أو أكثر، وهذا قول طائفة من السلف والخلف منهم ابن عقيل من أصحاب الإمام أحمد، وغيره، وهذا هو المأثور عن الصحابة. فإنه قد روي حرب الكرماني وأبو زُرْعة الدمشقي وغيرهما بإسناد ثابت: أن عمر ابن الخطاب ـ رضي الله عنه ـ قبل حديقة أسيد بن حضير ـ لما مات ـ ثلاث سنين، وتسلف القبالة، ووفي بها دينا كان على أسيد. ومثـل / هذه القصة لابد أن تنتشر، ولم ينكرها أحـد. وأيضا، فإنه وضع الخراج على أرض الخراج ـ والأعيان والخراج أجرة: في مذهب مالك والشافعي، وأحمد في المشهور ـ والأرض ذات شجر فأجر الجميع، وهذا القول أصح الأقوال، وبه ترك الخراج عن المسلمين في مثل ذلك، وله مأخذان: أحدهما: أنه لابد من إجارة الأرض، وذلك لا يمكن إلا مع الشجر، فجاز للحاجة لعدم إمكان التبعيض، كما أنه إذا بدي بعض ثمر الشجر جاز بيع جميعها اتفاقا، بل إذا بدي الصلاح في شجرة كان صلاحا لذلك النوع في تلك الحديقة، عند جماهير العلماء، وفي سائر البساتين نزاع، وذلك أنه يدخل في الفرد، والعقود تبعا ما لا يدخل استقلالا، كما يدخل أساس الحيطان ودواخلها، وعمل الحيوانات، وما يدخل من الزيادة بعد بدو الصلاح، وكما ثبت عنه في الصحيحين أنه قال: (من باع نخلا قد أبرت، فثمرتها للبائع، إلا أن يشترط المبتاع). وإذا اشترط المبتاع الثمر المؤبر جاز بالنص والإجماع، وهو ثمر لم يبد صلاحه جاز بيعه تبعا لغيره، وغير ذلك. ويجوز للحاجة ما لا يجوز بدونها، كما جاز بيع العرايا بالتمر، وكما جوز من جوز المضاربة والمساقاة والمزارعة تبعا. ومن القياس عنده أن ذلك لا يجوز؛ لأن ذلك عنده إجارة كما / هو مذهب أبي حنيفة، ومالك، والشافعي. ومن جعل ذلك مشاركة وجعلها أصلا آخر يجوز ذلك نصا، لا قياسًا، وليس هو مخالفا للقياس، كما هو مذهب جمهور السلف، وطوائف من الخلف من أصحاب أبي حنيفة كصاحبيه، ومن أصحاب الشافعي كالخطابي وغيره، وهو مذهب أحمد وغيره، فهنا أتم نظرا. والمأخـذ الثاني: أن النبي صلى الله عليه وسلم إنما نهى عن بيع الثمرة قبل بدو صلاحها، كما نهى عن بيـع الحب قبـل اشتداده، وعن بيع العنب حتى يسود، ثم إنه يجوز مع ذلك عند الأئمة الأربعة إجارة الأرض لمن يعمل عليها، حتى ينبت الزرع، وليس ذلك تبعا للحب وكذلك تقبيل الشجر لمن يعمل عليها حتى تثمر، ليس هو تبعًا للثمرة. ألا ترى أن المزارعة على الأرض بجزء من الأرض، كالمساقاة على الشجر بجزء من الثمر، وأن إعارة الأرض كإعارة الشجر،وأن انتفاع أهل الوقف بزرع الأرض كانتفاعهم بثمر الشجر.فالثمرة ـ وإن كانت أعياناً ـ فإنها تجري مجري الفوائد، والنفع في الوقف، والمضاربة، والمساقاة؛ لأنه يستخلف بدلها، كما أن استرضاع الظئر لما كان مستخلفا بدله جري مجري النفع؛ ولهذا في باب بيع الثمر بعد بدو صلاحه، إنما تكون مؤونة كمال الصلاح على البائع. وأما القبالة التي فعلها عمر، فإنما يقوم فيها بسقي الشجر، ومؤونة حصول الثمر المتقبل، فلا / يقاس هذا بهذا. ويعلم أن نهي النبي صلى الله عليه وسلم عن بيع الثمر حتي يبدو صلاحه لم يتناول هذه القبالة بلا ريب. ثم إن قدر أن الشجر لم يطلع أو تلف بعد إطلاعه بدون تفريط المتقبل، كان بمنزلة تعطل المنفعة في الإجارة، وهو لا يستحق أجرة إلا إذا تمكن المستأجر من الانتفاع. الصورة الثانية: أن يكون المشتري مجرد الثمرة فقط، ومؤونة السقي على البائع، فهذه المسألة إذا كان البستان مشتملا على أنواع، ففيها أيضا قولان: أحدهما ـ وهو قول الليث بن سعد ـ: أنه يجوز بيع جميع البستان، إذا صلح نوع منه، كما يجوز بيع النوع جميعه، إذا بدا صلاح بعضه؛ وذلك لأن التفريق فيه ضرر عظيم، وذلك لأن المشتري للنوع قد يتفق في النوع الآخر، وقد لا يتفق من يشتري نوعا دون نوع، وهذا القول أقوي من القول الثاني، وهو المنع مطلقا، كما هو المشهور، والجواز هنا بمجرد الحاجة، وذلك أن بيع المزابنة أعظم من بيع الثمر قبل بدو صلاحه، فإنه بيع ربوي بجنسه خرصا. والربا أعظم من الغرر لاسيما ونهيه عن بيع الثمرة، حتي يبدو صلاحها، قد خص منه مواضع كما خص بيعه مع الشجر. فعلم أن النهي لم يتناول بيعه مع غيره مطلقاً، بل قد يقال: إنما / نهى عنه مفرداً، كما نهى عن الذهب والحرير مفرداً، ويباح مع غيره ما لا يباح مفرداً؛ ولأنه بيع رطب بجنسه الربوي يابسا، وهذا محرم بالنص أيضا، كما هو مذهب مالك والشافعي وأحمد، وقد جاز من دخول المعدوم في بيع الثمرة ما لم يثبت نظيره في المزابنة. فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم قد أرخص في العرايا استثناء من المزابنة للحاجة، فلأن يجوز بيع النوع تبعاً للنوع، مع أن الحاجة إلى ذلك أشد وأولي، ولا يلزم من منعه مفرداً منعه مضموماً. ألا تري أن الحمل لا يجوز إفراده بالبيع، وبيع الحيوان الحامل جائز بالإجماع، وإن اشترط كونه حاملا، ونظائره كثيرة في الشريعة. وسر الشريعة في ذلك كلـه: أن الفعل إذا اشتمل على مفسدة منع منه إلا إذا عارضها مصلحة راجحة، كما في إباحة الميتة للمضطر. وبيع الغرر نهى عنه؛ لأنه من نوع الميسر الذي يفضي إلى أكل المال بالباطل، فإذا عارض ذلك ضرر أعظم من ذلك، أباحه دفعا لأعظم الفسادين باحتمال أدناهما. واللّه أعلم.
|